Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

 

 

إن النظام الرأسمالي السّائد والمُعمَّم عالميا يَعتَبِر المالَ بضاعةً كأيِّ بضاعةٍ أخرى مثل القمح والملح والسكر... وما إلى ذلك، بضاعةً قابلةً للمقايضة والبيع والشراء وتُحدَّد قيمتُها في السوق المالية حسب العَرْض والطلب. لذلك فإن المؤسساتِ الماليةَ بجميع أصنافها ومنها ما يُسَمَّى بالبنوك الإسلامية، ما هي إلا مؤسسات تَخْتَصُّ في إنتاج المال بضاعةً وترويجًا وعرضًا. وتخضع لنفْس الأُسس الرأسمالية وشروط السوق كغيرها من المؤسسات الاقتصادية المنتِجة. فالبنك الإسلامي في جوهره ينصهر تماما في صلب النظام الرأسمالي من حيث المبادئ والأسس وعملية الإنتاج.

   

فعملية الإنتاج في النظام الرأسمالي ترتكز أساسًا على عنصرين   اثنين، هما المال والعمل. فالمؤسسة الاقتصادية الرأسمالية تباشر عملية الإنتاج وفق   مقادير   (dosage) هذين العنصرين (المال والعمل) للحصول على المنتَج المؤمَّل   سواءً كان منتَجًا ملموسًا   (produit) أو خِدْمةً   (service) ثم تأتي   عملية التوزيع والعرض لبيع المنتَج والحصول على الربح المشروع بعد خَصْم كُلفة   الإنتاج من العائد. فالأرباح الرأسمالية هي حتْمًا حصيلةُ دمجِ عنصرَيْ المال   والعمل حسب المقادير والمُعايَرَة المتعاقَد عليها بين الشركاء، غير أن النظام   الرأسمالي في واقع الأمر يُصَنِّّفُ نصيبَ العمل من الربح في قائمة تكاليف الإنتاج   فيصبح بذلك قابلاً للمساومة، ويقتصر الربح – قلَّ أم كثُر- حصرًا على حِصَّة المال  . ولنضرب لذلك مثلا   :

 

يعتزم زَيْدٌ، بمفرده أو بمعية شركائه، إنشاءَ مؤسسة اقتصادية لإنتاج بضاعةٍ ما أو أكثر، لذلك يستثمِر مالَه فيأخذ شكل خصوم المؤسسة (passif) يستعمله لاقتناء وتوفير الأُصولِ الثابتة والمتداوَلة (actif) من أراضٍ ومبانٍ ومعدات ووسائلِ نقلٍ وأثاثٍ وغيرها فتنتهي بذلك المرحلة الأولى (المرحلة المالية) وهي مرحلة متقدمة نسبيا في بعث المؤسسة إلا أن عملية الإنتاج تظل مستحيلةً ما دام عنصرُ العملِ غائبًا، ولا تنطلق عملية الإنتاج إلا عند تَوَفُّرِ عنصر العمل بانتداب الموارد البشرية من إطارات وعملة وأخصَّائيين...

إن طبيعةَ النظام الرأسمالي واقتصادَ السوق تقوم هيكليًا على تناقضٍ صارخٍ ونفاقٍ مبطَّنٍ إذ هو يَخُصُّ عنصر المال بالأرباح – باتفاق جميع الناس وإجماعهم منذ قرون -  ويُزِيحُ عنصرَ العمل فيضعه في خانة الكُلفة في باب "العمَالة والأجور" تمامًا كالمواد الخام ومصاريف السَّفر والتأمين والنقل والمآدب وبقية تكاليف الاستغلال الأخرى. إذن يمكن الجَزْمُ بأن عنصر المال هو المُهَيْمِنُ الوحيد على المؤسسة الاقتصادية الرأسمالية الذي يدُرُّ على أهْلِه أرباحًا طائلةً مقَارَنةً بعنصر العمل، أكان ذلك في عملية الاستثمار كما ورد في المثال السابق أم في عملية الاقتراض من البنوك حيث تُوفِّر للمُقرِضِ ربحًا يتمثل في قيمة الفائض (intérêt).

وقد خلا تاريخُ علم الاقتصاد الرأسمالي من أي نَقْدٍ جِدِّيٍّ لركائزه وأسسه باستثناء ما طرحه "كارل ماركس" في كتابه " رأس المال" حيث قلب مبدأ النظام الرأسمالي ظهرًا لبَطْنٍ وأقرَّ أنّ قيمةَ البضاعة أو بالأحرى القيمة المضافة في عملية الإنتاج لا تتحقق بدمج مقادير من عنصرَيْ المال والعمل كما هو مُتَدَاوَلٌ بل بعنصر العمل دون غيره ويعتبِرُهُ العنصر الوحيد الذي يخْلُقُ قيمةَ البضاعة (la valeur). كما يعتبر المفكِّرُ "كارل ماركس"  المالَ عنصرًا دخيلاً هدفُه الهيمنةُ والاستغلالُ الصارخُ لعنصر العمل. فالمال لا ينجب مالاً ! وبذلك يُخرجه تمامًا من دائرة المُنتَج  الذي يُباع ويُشترى ليحْصُرَ مهمتَه في دور المعيار في عملية المبادلات التجارية.

لقد أشرنا إلى أنَّ وظيفةَ المؤسسات المالية - ومنها جميع أصناف البنوك - تتمثل في إنتاج بضاعة المال وترويجها وعرضها وتَخضَعُ هذه المؤسسات المالية لنفس الأسس الرأسمالية وشروط السوق كغيرها من المؤسسات الاقتصادية المنتِجة، ومن ضمنها بيعُ بضاعتها (المال) مقابلَ سعرٍ أو فائضٍ (intérêt) في شكل قروضٍ  يقع سدادُها بعد أجلٍ.

هذا الفائض – سعرُ بَيعِ بضاعة المال – هو الربا، فما حقيقته يا ترى ؟

لقد ظهر الإسلام في مجتمع كان فيه الرِّبا سائدا ومنتشرا بين الناس، والمقصود به رِبَوَانِ:

  • ربا الفَضْلِ، ويشمل الأصنافَ الستة: الذهب والفضة والقمح والشعير والملح والتمر، عند بيع صِنْفٍ بصنفه  كتبادل دينارٍ بدينارين أو صاعَ قمح بصاعيْن، ونحو ذلك ويُسَمَّى ربا الفضل للتفاوت بين النوعين إما في الجودة، وإما في الثقل والخفة ...
  • وربا النَّسِيئَةِ : يقال أنسَأتَه الدَّين أي مددتَه الأجلَ، وصُورَتُه أن ُيقْرِضَ زيدٌ عمرًا مائةَ دينارٍ لأجَلٍ ما. وعند حلول أجلِ سدَادِ الدَّين يقول الدائن للمَدِينِ: " أتقضي أم ُتْربِي" أي تدفع ما عليك الآن أم تؤخر الدفع ونزيد المبلغ. وعُرف هذا الربا بربا الجاهلية لأنه كان الوحيد المعروف والمتعامَل به كما سمي بربا القرآن لأن تحريمه جاء في القرآن ( سورة الروم، الآية  39- سورة النساء، الآية 161 – سورة آل عمران، الآية 130 – سورة البقرة، الآيات 275 لإلى 280 ) .

يقول ابن جرير الطبري: « قال قتادة : إن ربا الجاهلية،  يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه. وعن زَيد بن أسلم قال: إنما كان الربا في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضلُ دَيْنٍ فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له : تعفيني أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه، قضى، وإلا حوَّله إلى السنة الثانية، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم جذعه، ثم رباعياً ثم هكذا إلى فوق، وفي العين – الذهب والفضة - يأتيه، فإن لم يكن عنده، أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده، أضعفه أيضاً ، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده، جَعَلَهَا أربعمائة، يُضَعِّفُهَا له كل سنة أو بعضه » ( ابن جرير الطبري، جامع البيان، ج 7 ص 217 – طبعة دار المعارف ) .

ويقول الفخر الرازي: « ربا النسيئة، هو الأمر الذي كان مشهوراً متعارَفاً في الجاهلية، ذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال، فإذا تعذر عليه الأداء، زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا يتعاملون به ». ( مفاتيح الغيب المشهور بالتفسير الكبير، ج 2  ص 529 ) .

فكيف يمكن إذن أن تَتَنَزَّلَ إشكالية البنك الإسلامي في صلب النظام الرأسمالي وما يُروَج حولها ؟ وهل من مُوجِبٍ لفصل البنوك الإسلامية عن بقية البنوك ؟ وما الدّاعي للحديث عنها أصلاً ؟ وهل هي حلٌّ أم وَحَلٌ ؟

راح فقهاؤنا – كعادتهم – يُفتون ويبحثون بكل جُهدٍ عن الحل الأمثل لهذه الإشكالية. فكانت نتيجةُ بحوثهم  بعثَ البنوك الإسلامية بحكم أنها تتصرف بدون ربًا (intérêt) ! وكأنّهَ بإضافة "إسلامي" لكلمة بنكٍ يَمَّحِي الرِّبا ويَطَّهَرُ البنكُ ! وتعددت آراء الفقهاء وتحاليلهم واختلفوا في أمرهم وتوخى البعض مبدأ التمسك بتطبيق الأحكام الشرعية حرفيًا دون اعتبارِ البيئة ومحيطِها ونُظُمِها وتطورِها ودون الوقوف على أسباب تحريم الربا ومضمونه وأهدافه وظروفه. وآل الأمر إلى وضْعٍ يتّسِم بتحريم كلِّ أصناف الفوائض (الربا) فوضع هذا التحريمُ البنكَ العاديَّ في إشكالية هيكلية تَحْرِمُهُ من تسويق بضاعته (المال) للمستهلك المُسْلم.

إن الحلول والصِّيَغَ التي اهتدت إليها البنوك الإسلامية لتتآلف وتتلاءم مع سير البنوك التقليدية وكيفية اشتغالها تتمثل في ابتداع مصطلحات وصِيَغٍ جديدة، بها تجانب الرِّبا وتضفي عليه مِسحَة الحلال وصِبغَة الشرعية. فاستنبطت من حيث الأساس مبدأ المشاركة في الأرباح والخسائر امتثالا للقاعدة الفقهية " الغُنْمُ بالغُرْمِ " ومن حيث التطبيق صيغًا عديدة مُقْحمةً إقحامًا يجمعها فرعان اثنان:

الفرع ألأول: المشاركة، بصيغها من قبيل المضاربة والمشاركة والمزارعة والمساقاة... يؤكد الدكتور محمد بوجلال في بحثه " تقييم المجهود التنظيري للبنوك الإسلامية... ": « إن بحثنا هذا يندرج ضمن محاولة أكاديمية للارتقاء بنظرية البنوك الإسلامية وتحسينها على ضوء الثلاثة عقود من التجربة على أرض الواقع. إن المتتبع لهذه التجربة  يلاحظ إخفاق المصارف الإسلامية في تجسيد مبدإ المشاركة في الربح والخسارة الذي نادى به معظم الاقتصاديين الإسلاميين كبديل للمعاملات المصرفية التقليدية القائمة على الفائدة المُحَرَّمَة لدى الفقهاء المعاصرين »

الفرع الثاني: الهَامِشُ المَعْلُومُ، بصيغه من قبيل المرابحة والسَّلَم والاستصناع والجَعَالَة والإجارة بتفريعاتها...

لهذا أُجْبِرَت البنوك الإسلامية على تَوَخِّي مصطلح الهامش المعلوم بصيغه بالتوازي مع البحوث الجارية عسى أن تُفْضِيَ هذه البحوث إلى اكتشاف صِيَغٍ تتلاءم ومَبْدأَ الغنم بالغرم لهدف تثبيت شعار المشاركة في الربح والخسارة.

لقد سجلت البنوك الإسلامية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من حيث النمو نسبة سنوية تقارب 15 في المائة، أما من حيث عددها فقد بلغ 300 مؤسسة منتصبة في 300 دولة تتصرف في قيمة أصول تفوق 300 مليار دولار، علاوة

على أصول شبابيك الخدمات المصرفية بالبنوك التقليدية والتي تقدر ب 200 مليار دولار.

فذهب في ظن البعض أن هذه الأرقام مؤشر على نجاح البنك الإسلامي، والواقع أن هذه المؤشرات لا تعدو أن تكون مجرد استجابة لحاجة ملحة للعميل المسلم الذي يرفض التعامل بالربا ساعيا في حياته إلى أن لا يخرج عن الأحكام الشرعية عبادة وتصرفا وكسبا. وفي الحقيقة فإن نجاح البنوك الإسلامية ما هو إلا نتيجة لاستغلالها إحدى أدوات الرأسمالية التي تتمثل في الإجابة التسويقية لبيع بضاعتها تلبية لحاجة العميل المسلم.

بناء على ما تقدم يبدو جَلِيًا أنّ البنوك الإسلامية لا تمثل حلاًّ بِقَدْرِ ما تمثله من وَحَلٍ قي النشاط الاقتصادي المعاصر. فلا الحِيَلُ المُلتوية ولا استنباط المصطلحات الفقهية ولا نَحْتُ الألفاظ اللغوية من شأنها أن تُغَيِّرَ في شيء من طبيعة البنك كمؤسسة رأسمالية.

العباسي الرابحي: خبير في الاقتصاد

source : tanitpress

 

Tag(s) : #Finance islamique
Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :