Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

الشّعب الكريم له الحق أن يفهم و يجب أن يفهم ما يحدث و خاصّة ما يمكن أن يحدث في المستقبل من تطوّرات للأزمة الماليّة/الإقتصاديّة الحاليّة. و أقصد بالشّعب الكريم هنا كلّ من ابتعدت اهتماماته عن الشّأن الإقتصادي، فكلّ النّاس أو حتّى جلّهم ليسوا بالظّرورة من المطّلعين على الكثير أو القليل من تعقيدات هذا الحقل. هذا اﻷمر طبيعي باعتبار أنّه من غير المعقول و لا المطلوب أن يكون كلّ النّاس أو جلّهم من الإقتصاديّين. لكن اﻷمر الغير طبيعي أنّ باقي النّاس، أي غير الإقتصاديّين، لا يمتلكون الحد اﻷدنى من « الثّقافة » الإقتصاديّة التي تمكّنهم امتلاك الحس النّقدي (بمعنى فهم العيوب و الإيجابيّات و ليس بمعنى النّقود) في مسائل تمسّ حياتهم اليوميّة. ملحوظتي هذه تخصّ المجتمعات الغربيّة و لا تخصّ تونس ﻷنّه،في تقديري، في الحالة التّونسيّة هذه المشكلة تمتدّ حدّ القصور عن تركيب الجمل الصّحيحة و الحسابات البسيطة نسبيّا في ثقافة العموم بما فيهم الكثير ممّا يسمّى بحاملي « الشّهادات العليا » و لكن هذا شأن خطير آخر.
 
الإقتصاد بالذّات يجب أن يشكّل جزءا أساسيّا من ثقافة النّاس ﻷنّ كلّ النّاس يقومون في حياتهم اليوميّة بممارسة الإقتصاد. فالفرد العادي في المجتمع يذهب يوميّا إلى العمل و يتقاضى أسبوعيّا أو شهريّا أجرة في شكل مبلغ من المال و يذهب بشكل منتظم للمتاجر لإقتناء حاجياته من أكل و لباس و مواد تنظيف .. هذا النّشاط الإقتصادي اليومي يتكوّن أساسا من صنفين من العمليّات : البيع و الشّراء. هذا الشّخص يقوم ببيع مجهوده البدني أو الفكري لمشغّله مقابل مبلغ من المال و يشتري حاجياته مقابل مبالغ مختلفة من نفس المال. و نلاحظ هنا ظهور طرف ثالث في كلّ مرّة تحصل فيها عمليّة الشّراء/البيع و هو المال أو النّقد. في ظاهر اﻷمر لا يقوم النّقد هنا إلاّ بدور الوسيط الذي يسهّل عمليّات التّبادل أي الشّراء/البيع. ولكن دوره في الحقيقة أهم من ذلك بكثير فهو يحظى بثقة مطلقة من طرف أطراف المعادلة الإقتصاديّة فالشّخص مستعد أن يعمل فقط مقابل مبلغ من المال ﻷنّه يعلم أنّ أي متجر مستعد أن يعطيه سلعة مقابل كمّيّة من ذاك المال. من جهة أخرى فهو المرجع أو المحدّد لقيمة اﻷشياء، فكما أنّ الطّول يقدّر باﻷمتار فإنّ القيمة، لنقل الإقتصاديّة، ﻷيّ شئ تحدّد بكميّة من المال.
 
مسألة الثّقة هذه فرضت في البداية أن يكون النّقد مكوّن من قطع من معدن نفيس، أساسا الذّهب والفضّة و هذا الإعتماد للمعادن النّفيسة تواصل إلى حدّ التّاريخ الحديث و بالتّحديد إلى حد سنة ألف و تسعمائة و واحدوسبعون. اعتماد هذه المعادن طرح أيضا مسألة تخزينها و نقلها في حالة المبالغ الكبيرة فبرزت البنوك في البداية كاستجابة لهذه الحاجة أي التخزين و توفير الحماية للنّقد المعدني بمقابل. هذا اﻷمر استحدث عن قصد أو عن غير قصد ممارسة جديدة إذ أنّ مودعي اﻷموال لدى البنوك و الذّين كانو يتسلّمون وصولات تثبت ملكيّتهم للأموال المودعة أصبحوا يتعاملون فيما بينهم و حتّى مع الآخرين بتلك الوصولات لأسباب عمليّة بديهيّة. فإذا كان أحدهم يريد شراء دار للسّكنى مثلا، فعوض أن يذهب للبنك بوصولاته لسحب نقده المعدني و دفع اﻷموال للبائع الذّي كان في أغلب اﻷحوال سيودعها من جديد في البنك، كان يسلّم الوصولات للبائع و تتمّ الصّفقة دون اللّجوء للمعدن: إنّه ظهور النّقد الورقي.
 
هذا اﻷمر أعطى البنوك، التي كانت مجرّد مؤسّسات إيداع للنّقد، سلطة ذات قيمة كبيرة. فالوصولات الورقيّة التي كانت تصدرها أصبحت ذات مصداقيّة لدى العموم تضاهي مصداقيّة النّقد نفسه. و لم تتوانى هذه المؤسّسات لتستغلّ هذا النّفوذ، فقد أخذت في إصدار وصولات تسلّمها لمن يحتاج أموالا مقابل تعهّده بإرجاع تلك الوصولات زائد مقدار من المال يتمّ الإتّفاق عليه مسبّقا معتبرة ذلك الفائض مقابل تحمّلها مخاطر إمكانيّة عدم السّداد للأموال في الموعد المحدّد. هذا المفهوم للفائض على أنّه مقابل تحمّل البنك للمخاطر في عمليّة الإقراض أمر مركزي في الإقتصاد الحديث و ذلك لجهتين. الجهة اﻷولى هي أنّه حقيقة تحمّل لمخاطر جدّ كبيرة فالبنك بإصداره و صولات بقيمة أكبر من قيمة النّقد المودعة لديه يكون عرضة لعدم إمكانيّة سداد مبالغ كلّ تلك الوصولات مجتمعة لو أنّ حامليها جميعا طلبوا استرجاع أموالهم دفعة واحدة. طبعا إمكانيّة أن يحصل هذا اﻷمر ضعيفة و لكنّه حصل فعلا عديد المرّات خلال اﻷزمات الماليّة. أمّا الجهة الثّانية فهي أنّ مقدار الفائض الذّي يقدّر عمليّا بنسبة ماءويّة من أصل القرض (أي المبلغ الذّي تمّ اقتراضه) يزداد و ينقص حسب مقدار مخاطر عدم السّداد التي يقدّرها البنك. فمثلا بالنّسبة لشخص له عمل قار في مؤسّسة حكوميّة يكون مقدار الفائض أقل بكثير من لو كان المقترض يشغل وضيفة مؤقّتة. و اﻷمر اﻷهم أنّه منطقيّا يستوجب على البنك أن لا يقرض شخصا عاطلا عن العمل مثلا ﻷنّه، في النّهاية، تلك الوصولات/اﻷموال التي سيقرضها تستند لنقد حقيقي ليس ملك للبنك بل للمودعين. فبهذا يكون من لا يملك أعطى لمن لا يستحق كحالة بن علي و بلحسن الطرابلسي مثلا.
 
للأسف ليس بن علي وحده من قام بهذا الفعل. بنوك الغرب برمّته قامت خلال فترة أو أخرى بهذا اﻷمر و خلال اﻷزمة الحاليّة حصلت مثل هذه العمليّات بشكل مكثّف و في كلّ الدّول الغنيّة تقريبا. ولسائل أن يسأل لماذا تقوم البنوك بهذه العمليّات الخطرة ؟ الجواب البديهي أنّ هذه بنوك تجاريّة هدفها الرّبح فمن مصلحتها إقراض أكثر ما يمكن من اﻷموال فهي تسعى دائما لخلق مناخ يمكّنها من هذا اﻷمر. منذ سنة ألفين وواحد أخذت هذه البنوك في تشجيع حرفائها على التّداين لشراء العقّارات حتّى أولاءك الذّين يشكّلون نسبة مخاطر عالية فازداد آليّا الطّلب على العقّارات فازدادت اﻷسعار. بزيادة اﻷسعار كانت مخاطر القروض تنقص ﻷنّ من يملك عقّارا سعره في تزايد يمكن في حال عجزه عن السّداد في الآجال بيع العقّار و استرجاع أصل الدّين مع الفائض. ثمّ إنّها مرّت إلى مرتبة أعلى فكانت تشجّع النّاس على المضاربة بسوق العقّارات فأخذ النّاس بما فيهم البسطاء منهم يشترون العقّار عبر التّداين طبعا لغرض بيعه بعد سنة أو أكثر أو أقل عندما يرتفع سعره فيجنو أرباحا. ثمّ مرّوا إلى مرتبة أعلى بأن يعرضو على حرفاءهم أن يقترضوا بضمان ارتفاع سعر العقّار مستقبلا و ذلك ما إن تمر سنة واحدة بعد شرائهم له و حتّى قبل أن يشرعوا في تسديد الدّين اﻷصلي و ذلك لشراء سيّارة أو بناء مسبح أو أيّ شئ آخر.
 
و تداين القوم حتّى التّخمة و توقّف كلّ شئ في منتصف سنة ألفين و سبعة بعد أن وصلت أسعار العقّارات إلى حدّ لا يطاق و عندما يتوقّف مسار كهذا فإنّ اﻷسعار لا تملك إلاّ أن تنهار و يصبح سداد أغلب الدّيون مستحيلا. و إذا علمنا أنّ المبالغ التي استعملت في هذه العمليّات تقدّر بآلاف المليارات من الدّولارات فإنّ اﻷمر لا يمكن أن يفضي إلاّ إلى كارثة. كارثة ماليّة أوّلا ﻷنّ كثيرا من البنوك ستنهار. و كارثة اقتصاديّة ثانيا ﻷنّ شعوبا غارقة في الدّيون لم يعد بإمكانها أن تقتني أيّ شئ، الإستهلاك انهار و بيوعات المؤسّسات من السّلع و الخدمات تبعه في نفس الهوّة. الآن انتقلت العدوى إلى المؤسّسات الصّناعيّة (صناعة السّيّارات مرشّحة أن تكون اﻷولى على القائمة) و الخدماتيّة و الفلاحيّة. البطالة بدأت ترتفع بشكل كبير و اﻷسعار كلّ اﻷسعار آخذة في الإنخفاض. إنّه الكساد العظيم ولكن بشكل أكثر رعبا.
 
لكن ما دخل الشّعب التّونسي الكريم في بنوك أمريكا ؟ الجواب أنّ اقتصادنا تابع بالكامل للإقتصادات الغربيّة عبر أوروبّا فالذّي يشتري زيتنا و تمرناوبرتقالنا و يأتي للإستجمام في شواطئنا هو نفسه ذلك الذي أصبح غارقا في الدّيون و سيزداد غرقا فيها. ثمّ هناك ما هو أخطر، فكثير من المؤسّسات التي ركّزت فروعا ببلادنا (صانعي قطع السّيّارات مثلا) تتعرّض لصعوبات ضخمة قد تضطرّها لغلق تلك الفروع. هذا في الحد اﻷدنى و نسأل اللّه حسن العاقبة فهؤلاء أهلنا قبل و بعد كلّ شئ.

 
أبوذر ، السّادس عشر تشرين الثّابي
 

Tag(s) : #articles de presse
Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :